الأسس الدستورية لِسَنْ
التشريعات العقابية
لا تخلو صياغة النصوص القانونية
المتعلقة بالتجريم والعقاب من خطورة تقتضي الحذر الشديد ممن يتولى التشريع، كي يتجنب
الإخلال بالتوازن الموضوعي بين حماية الحرية الشخصية وصونها من العدوان من جانب، وحماية
مصلحة الجماعة والتحوط لنظامها العام من جانب آخر. ولتحقيق هذا التوازن تضم الدساتير
مجموعة من الأسس ينبغي أن يتقيد بها المشرع العادي عند سنه للنصوص العقابية. في
هذه المقالة سوف نأتي عليها.
ولعل أول أساس يحكم القواعد التي تنظم التجريم والعقاب
هو ما يتعلق بمبدأ الشرعية الجنائية، أي أن تأتي هذه القواعد في تشريعٍ ولا تترك
للعرف، بل نرى وجوب أن تصدر بالأداة التشريعية (قانون) وليست بأداة تشريعية أدنى
كاللوائح أو القرارات الوزارية. فالمادة (34) من الدستور الفرنسي حددت الموضوعات
التي تصدر بقانون وأكدت بأن منها (تحديد الجنايات والجنح والعقوبات المقررة لها)،
وإلى ذات المسار ذهبت المادة (40) من الدستور القطري لتؤكد على أن (لا جريمة ولا
عقوبة إلا بقانون). وإصدار هذه القواعد بقانون يشكل ضمانة لسببين، أولهما: أن القانون
يُفترض أن يُوضع من قبل مجلسٍ منتخبٍ من الشعب، يمثله، فيكون القانون الصادر منه هو
ضمير الشعب. والسبب الثاني هو أن مناقشة مشروعات القوانين تتم في جلسات علنية تكشف
دقائقها وتفصيلاتها وآراء الأعضاء بشأنها، وبالتالي تتاح نافذة للشعب ومنظمات المجتمع
المدني ليطلوا من خلالها على إعداد القانون في مراحله الأولى فيثيروا ما يشوبه من
انتهاك للدستور أو تقييد للحريات قبل التصديق عليه واصداره. وفي المقابل، لا شك
بأن صدور القانون من مجلسٍ معينٍ ومغلق يخل بهذه الضمانة.
وامتدادًا
للأساس الأول يأتي الأساس الثاني والذي نراه بأن الأصل فيه ألا تصدر النصوص
العقابية في مدة غيبة المجلس التشريعي أو عدم انعقاده، فلا يصدر نص عقابي بمرسوم
بقانون. فالنصوص العقابية لا تدخل في نطاق الأحوال الاستثنائية التي لا تحتمل
التأخير لحين عودة المجلس للانعقاد، كما إن إصدار النصوص العقابية بمرسوم بقانون
يجعل رفض المجلس له عند عودته في غاية الصعوبة بسبب ما يشترطه الدستور من أغلبية
خاصة لرفضه يصعب تحقيقها في الواقع العملي، وبالتالي يكون من سن التشريع العقابي فعليًا
هو السلطة التنفيذية.
والأساس
الدستوري الثالث هو ألا تخالف مواد قانون العقوبات الدستور، وهو ما يجب أن تخضع له
كل التشريعات عمومًا، لكنه في شأن التشريع العقابي أكثر وجوبًا، إذ يجب أن يسير في
ظله ويدور في فلكه، فلا يكون سِفرًا لتجريم حق أو حرية أو لإيقاع من يمارسها في
حباله وشِراكه.
أما
الأساس الرابع والذي ينبثق من مبدأ الشرعية الجنائية أيضًا فيتمثل في أن تصاغ
عبارات التجريم بصياغة واضحة ودقيقة. فتكون الأفعال التي يجرمها القانون محددة
بصورة قاطعة تحول دون التباسها بغيرها. فلا تكون قابلة لتفسيرات متعددة أو للتوسع فيها
بإدخال أفعال أو سلوكيات لم يُنص عليها صراحة. فالهدف من مبدأ الشرعية هو ضمان
اخطار الناس بما يعتبر جريمة وبالعقاب المترتب عليها وهو ما يستلزم بالضرورة وضوح
قصد المشرع.
أما
الأساس الدستوري الخامس، فيتمثل في التأكيد على أن العقاب لا يكون إلا على الأفعال
اللاحقة للعمل بالقانون، فلا يحاسب الشخص على فعل قام به قبل صدوره، أو على وقائع
سابقة على نصوص التجريم، كما لا يجوز أن ينص القانون على سريان أحكامه بأثر رجعي
إلا إذا كانت أصلح للمتهم.
أما الأساس الدستوري السادس فإن العقوبة شخصية فلا يأتي
القانون لينص على مآخذة انسان بجريرة غيره أو معاقبته على جريمة لم يرتكبها،
فالعقوبة جزاء ينزل على من يعتبر مسؤولًا عن ارتكاب الجريمة.
أما
السابع فيتعلق بمبدأ التناسب فتكون العقوبة المقررة في القانون متناسبة مع جسامة
الجريمة أو خطورتها، فلا يقرر القانون عقوبة قاسية غير متناسبة مع الجرم الذي
ارتكبه الشخص، وإلا أخل بالتوازن المطلوب بين حماية الحرية الشخصية وحماية
المجتمع.
أما
الأساس الثامن فهو إلا يقرر المشرع ضمن العقوبات الواردة في القانون عقوبة النفي أو
الإبعاد عن الدولة للمواطن، إذ لا يجوز دستوريًا ابعاد أي مواطن عن البلاد أو منعه
من العودة إليها.
أما
التاسع فيتعلق بمبدأ تفريد العقوبة، ويقتضي أن توضع النصوص بشكل يسمح للقاضي اختيار
العقوبة المناسبة في نوعها ومقدارها للحالة التي أمامه. فلا يُنص على جزاءٍ وحيد
يطبق على جميع الحالات، فالمذنبون جميعًا لا تتوافق ظروفهم، والقاضي في ممارسته لسلطته
يأخذ بالاعتبار شخصية الجاني وجسامة الجريمة ووزنها وملابساتها وآثارها، وعليه وتحقيقًا
للعدالة يجب ألا يأتي القانون ليسلب القاضي هذه السلطة فهي إحدى خصائص الوظيفة
القضائية.
وأخيرًا
نرى بأن لا قيمة لهذه الأسس دون وجود محكمة دستورية يُلجأ لها عند إخلال النص
العقابي بأحكام الدستور أو بضمانات الحرية.
هذا
والله من وراء القصد.
halsayed@qu.edu.qa
الثلاثاء
21 يناير 2020