الثلاثاء، 21 يناير 2020

الأسس الدستورية لِسَنْ التشريعات العقابية


الأسس الدستورية لِسَنْ التشريعات العقابية



لا تخلو صياغة النصوص القانونية المتعلقة بالتجريم والعقاب من خطورة تقتضي الحذر الشديد ممن يتولى التشريع، كي يتجنب الإخلال بالتوازن الموضوعي بين حماية الحرية الشخصية وصونها من العدوان من جانب، وحماية مصلحة الجماعة والتحوط لنظامها العام من جانب آخر. ولتحقيق هذا التوازن تضم الدساتير مجموعة من الأسس ينبغي أن يتقيد بها المشرع العادي عند سنه للنصوص العقابية. في هذه المقالة سوف نأتي عليها.

                ولعل أول أساس يحكم القواعد التي تنظم التجريم والعقاب هو ما يتعلق بمبدأ الشرعية الجنائية، أي أن تأتي هذه القواعد في تشريعٍ ولا تترك للعرف، بل نرى وجوب أن تصدر بالأداة التشريعية (قانون) وليست بأداة تشريعية أدنى كاللوائح أو القرارات الوزارية. فالمادة (34) من الدستور الفرنسي حددت الموضوعات التي تصدر بقانون وأكدت بأن منها (تحديد الجنايات والجنح والعقوبات المقررة لها)، وإلى ذات المسار ذهبت المادة (40) من الدستور القطري لتؤكد على أن (لا جريمة ولا عقوبة إلا بقانون). وإصدار هذه القواعد بقانون يشكل ضمانة لسببين، أولهما: أن القانون يُفترض أن يُوضع من قبل مجلسٍ منتخبٍ من الشعب، يمثله، فيكون القانون الصادر منه هو ضمير الشعب. والسبب الثاني هو أن مناقشة مشروعات القوانين تتم في جلسات علنية تكشف دقائقها وتفصيلاتها وآراء الأعضاء بشأنها، وبالتالي تتاح نافذة للشعب ومنظمات المجتمع المدني ليطلوا من خلالها على إعداد القانون في مراحله الأولى فيثيروا ما يشوبه من انتهاك للدستور أو تقييد للحريات قبل التصديق عليه واصداره. وفي المقابل، لا شك بأن صدور القانون من مجلسٍ معينٍ ومغلق يخل بهذه الضمانة.

وامتدادًا للأساس الأول يأتي الأساس الثاني والذي نراه بأن الأصل فيه ألا تصدر النصوص العقابية في مدة غيبة المجلس التشريعي أو عدم انعقاده، فلا يصدر نص عقابي بمرسوم بقانون. فالنصوص العقابية لا تدخل في نطاق الأحوال الاستثنائية التي لا تحتمل التأخير لحين عودة المجلس للانعقاد، كما إن إصدار النصوص العقابية بمرسوم بقانون يجعل رفض المجلس له عند عودته في غاية الصعوبة بسبب ما يشترطه الدستور من أغلبية خاصة لرفضه يصعب تحقيقها في الواقع العملي، وبالتالي يكون من سن التشريع العقابي فعليًا هو السلطة التنفيذية.

والأساس الدستوري الثالث هو ألا تخالف مواد قانون العقوبات الدستور، وهو ما يجب أن تخضع له كل التشريعات عمومًا، لكنه في شأن التشريع العقابي أكثر وجوبًا، إذ يجب أن يسير في ظله ويدور في فلكه، فلا يكون سِفرًا لتجريم حق أو حرية أو لإيقاع من يمارسها في حباله وشِراكه.

أما الأساس الرابع والذي ينبثق من مبدأ الشرعية الجنائية أيضًا فيتمثل في أن تصاغ عبارات التجريم بصياغة واضحة ودقيقة. فتكون الأفعال التي يجرمها القانون محددة بصورة قاطعة تحول دون التباسها بغيرها. فلا تكون قابلة لتفسيرات متعددة أو للتوسع فيها بإدخال أفعال أو سلوكيات لم يُنص عليها صراحة. فالهدف من مبدأ الشرعية هو ضمان اخطار الناس بما يعتبر جريمة وبالعقاب المترتب عليها وهو ما يستلزم بالضرورة وضوح قصد المشرع.

أما الأساس الدستوري الخامس، فيتمثل في التأكيد على أن العقاب لا يكون إلا على الأفعال اللاحقة للعمل بالقانون، فلا يحاسب الشخص على فعل قام به قبل صدوره، أو على وقائع سابقة على نصوص التجريم، كما لا يجوز أن ينص القانون على سريان أحكامه بأثر رجعي إلا إذا كانت أصلح للمتهم.

                أما الأساس الدستوري السادس فإن العقوبة شخصية فلا يأتي القانون لينص على مآخذة انسان بجريرة غيره أو معاقبته على جريمة لم يرتكبها، فالعقوبة جزاء ينزل على من يعتبر مسؤولًا عن ارتكاب الجريمة.

أما السابع فيتعلق بمبدأ التناسب فتكون العقوبة المقررة في القانون متناسبة مع جسامة الجريمة أو خطورتها، فلا يقرر القانون عقوبة قاسية غير متناسبة مع الجرم الذي ارتكبه الشخص، وإلا أخل بالتوازن المطلوب بين حماية الحرية الشخصية وحماية المجتمع.

أما الأساس الثامن فهو إلا يقرر المشرع ضمن العقوبات الواردة في القانون عقوبة النفي أو الإبعاد عن الدولة للمواطن، إذ لا يجوز دستوريًا ابعاد أي مواطن عن البلاد أو منعه من العودة إليها.

أما التاسع فيتعلق بمبدأ تفريد العقوبة، ويقتضي أن توضع النصوص بشكل يسمح للقاضي اختيار العقوبة المناسبة في نوعها ومقدارها للحالة التي أمامه. فلا يُنص على جزاءٍ وحيد يطبق على جميع الحالات، فالمذنبون جميعًا لا تتوافق ظروفهم، والقاضي في ممارسته لسلطته يأخذ بالاعتبار شخصية الجاني وجسامة الجريمة ووزنها وملابساتها وآثارها، وعليه وتحقيقًا للعدالة يجب ألا يأتي القانون ليسلب القاضي هذه السلطة فهي إحدى خصائص الوظيفة القضائية.

وأخيرًا نرى بأن لا قيمة لهذه الأسس دون وجود محكمة دستورية يُلجأ لها عند إخلال النص العقابي بأحكام الدستور أو بضمانات الحرية.

هذا والله من وراء القصد.



halsayed@qu.edu.qa

الثلاثاء 21 يناير 2020


الخميس، 16 يناير 2020

عمان، والأسس الدستورية لوراثة العرش




عمان، والأسس الدستورية لوراثة العرش



رحل السلطان قابوس رحمه الله في العاشر من يناير 2020 وسط تأكيد الكثيرين من أبناء الخليج وساستها بأنه تمكن بحكمته وحنكته السياسية خلال نصف قرن من الزمان أن يوحد الصف الداخلي ويضفي على عمان بفضل الله الأمن والاستقرار وينقلها إلى دولةٍ عصرية، وأن يرسم للسلطنة خطًا متزنًا للسياسة الخارجية، معززًا من خلاله السلام الذي يؤمن به، ومبعدًا السلطنة عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى.

عمان عرفت أول دستور مقنن لها المسمى (النظام الأساسي للدولة في السلطنة) في عام 1996، والذي بين بكل وضوح طريقة توارث الحكم، والتي تنفرد بها عن بقية دول الخليج بعدم وجود نظام ولاية العهد. فاختيار السلطان الجديد يتم بعد إعلان شغور منصب السلطان. وتبدأ إجراءات الاختيار وفقًا للمادة (6) من النظام بقيام مجلس العائلة المالكة خلال ثلاثة أيام من خلو المنصب بتحديد من ينتقل إليه الحكم. ووراثة الحكم مقصورة في كل ذكر من ذرية السيد تركي بن سعيد بن سلطان ممن تتوافر فيه شروط تقلد الحكم المنصوص عليها في النظام الأساسي. فإذا لم يتفق مجلس العائلة المالكة على اختيار سلطان البلاد في المدة المقررة يقوم مجلس الدفاع بالاشتراك مع رئيسي مجلس الدولة ومجلس الشورى ورئيس المحكمة العليا وأقدم اثنين من نوابه بتثبيت من أشار به السلطان في رسالته إلى مجلس العائلة.  وبذلك يتضح بأن تسمية السلطان السابق لمن يتولى الحكم بعده يأتي تحوطًا، إذ يرجع الأمر أولاً لمجلس العائلة المالكة والذي حدد له الدستور ثلاثة أيام بحدٍ أقصى لاختيار من يلي الحكم، لكن إذا مضت هذه المدة دون تحديد فإن الأمر يجب أن يُحسم، وهنا تكون وصية السلطان ملزمة فيثبت من قام بتسميته.

إن عدم وجود منصب ولي العهد في سلطنة عمان والذي يُرجعه البعض لأسباب تاريخية ومذهبية جعل بعض الباحثين يبدي حوله المخاوف والتي من أبرزها الخشية من عدم الاستقرار الذي قد يعقب وفاة السلطان مباشرة، بل إن الأمر قد يزداد سوءًا بإتاحة فرصة المنافسة لجميع أعضاء مجلس العائلة المالكة مما قد يؤدي إلى الانقسام داخل العائلة أو عدم الانتقال السلمي للحكم.  كما أن هذا الأسلوب، من جانبٍ آخر، لا يخلو من الخطورة بسبب الدور الجوهري الذي يتولاه مجلس الدفاع والذي قد ترتفع معه احتمالية حدوث تلاعب أو تأييد عسكري لأحد المرشحين دون الوقوف على جانب الحياد.

            هذه المخاوف التي أبديت من قبل بعض الباحثين من الناحية النظرية اثبت التطبيق العملي للنصوص خلافها. إذ ابهرت التجربة العمانية الكثيرين لما أظهرته من سلاسة في انتقال الحكم ومن توافق للأسرة الحاكمة ووحدة صفهم وتغليبهم للمصلحة العامة. ومما يزيد الأمر اعجابًا احترامهم للأسس الدستورية التي نص عليها النظام الأساسي فتم النقل الإعلامي المصور لدقائق الأمور ومجريات الحدث.

            إن التطبيق العملي - لنص المادة (6) من النظام الأساسي التي تركت لمجلس العائلة تحديد من يلي الحكم خلال المدة المقررة - أضاف تطبيقات أخرى لمفهوم (التحديد) الوارد في المادة، فهو لا يقتصر فقط على انتخاب شخص أو آخر من بينهم أو تزكية أحدهم، بل إن المفهوم يتسع أيضًا ليشمل توافق أعضاء مجلس العائلة على التنازل عن المنافسة أو التزكية والجنوح نحو الرضا بمن أشار إليه السلطان السابق في وصيته.

            نظام توارث الحكم في سلطنة عمان لا ينفرد عن باقي أنظمة توارث الحكم الخليجية في عدم وجود منصب ولي العهد فقط، بل إن مما ينفرد به النظام العماني أيضًا هو ترك قرار اختيار وتحديد من يلي الحكم بأكمله إلى أعضاء مجلس العائلة على أن يبتون فيه خلال المدة المقررة دستوريًا. في هذا الأمر تختلف عمان عن باقي الدول الخليجية. ففي هذه الأخيرة يلعب الملك أو الأمير دورًا جوهريًا في اختيار من يلي الحكم بعده. ففي قطر يتم تسمية ولي العهد من قبل الأمير، وفي الكويت يقوم الأمير بتزكية المرشح لمنصب ولي العهد ويعرضه على مجلس الأمة.

في المملكة العربية السعودية من جانب آخر، ينظم إجراءات توارث الحكم (النظام الأساسي) و(نظام هيئة البيعة). وتتشكل هيئة البيعة من الأحياء من أبناء الملك عبدالعزيز المؤسس، وأحد أبناء كل متوفي أو عاجز أو متعذر منهم يعينه الملك. وتسير إجراءات الاختيار بأن يرسل الملك خلال العشرة أيام التالية لمبايعته كتابًا إلى رئيس الهيئة يحدد فيه من اختاره لولاية العهد. ويجوز للهيئة أن ترفض مرشح الملك وهنا يمكنها أن ترشح من تراه مناسبًا ولكن هذا الترشيح يجب أن يقترن بموافقة الملك. وذهب نظام هيئة البيعة السعودي إلى احتمالية عدم التوافق بين الهيئة والملك وعالج ذلك بأن قرر في هذه الحالة التصويت على مرشح كل منهما، ومن ينال أغلب أصوات أعضاء هيئة البيعة الحاضرين سوف يصدر أمرًا ملكيًا بتعينه.

ويلاحظ عند المقارنة بين نظامي توارث الحكم السعودي والعماني أن احتمالية تأثير الملك على هيئة البيعة وارد جدًا في الحالة السعودية، بينما هذه الاحتمالية لا يمكن أن ترد في الحالة العمانية إذ يتم اختيار من يلي الحكم بعد وفاة السلطان.

 أن الأحكام الإجرائية التي نص على تفاصيلها نظام هيئة البيعة السعودي اتحيت فرصة تجربتها عدة مرات وذلك بعد وفاة الأمير سلطان واختيار الأمير نايف وليًا للعهد، ثم وفاة الأمير نايف واختيار الأمير سلمان وليًا للعهد ثم مبايعته ملكًا، ثم اعفاء الأمير مقرن من ولاية العهد، ثم تعيين الأمير محمد بن نايف وليًا للعهد، وأخيرًا اختيار الأمير محمد بن سلمان وليًا للعهد بعد اعفاء الأمير محمد بن نايف من منصبه.

ولكن يبدو في الأغلب أن الأحكام المنصوص عليها في نظام هيئة البيعة لم تطبق في الواقع العملي ويفهم ذلك من احتجاجات الأمير طلال بن عبدالعزيز المتكررة ومطالبته بالالتزام بنظام هيئة البيعة (انظر جريدة القبس الكويتية بتاريخ 29 مارس 2009)، (وجريدة القدس العربي بتاريخ 3 فبراير 2013).

وبغض النظر عن مدى حقيقة الوقائع التي بنى عليها الأمير طلال احتجاجاته فإنه بلا شك ما كان لها أن تثار لو روعيت الشفافية وكان هناك نقلا اعلاميًا يبرهن اتباع اجراءات توارث الحكم المنصوص عليها في النظام، كالذي حصل مؤخرًا في سلطنة عمان.

            وفي الختام أسأل الله تعالى أن يوفق جلالة السلطان هيثم بن طارق آل سعيد لما فيه خير البلاد والعباد، وأن يديم على عمان ودول مجلس التعاون الخليجي وسائر بلاد المسلمين الأمن والأمان.



halsayed@qu.edu.qa

الثلاثاء 16 يناير 2020

الثلاثاء، 7 يناير 2020

قانون الجنسية وتجانس المجتمع




قانون الجنسية وتجانس المجتمع



كأستاذ للقانون العام تردني من حين لآخر بعض الأسئلة التي تتعلق بقانون الجنسية القطرية، وبناء عليه جاءتني فكرة كتابة سلسلة من المقالات تتعلق بهذا القانون، سهلة الفهم ومناسبة لنشر الثقافة القانونية. ولعل من المفيد عند تناول أي موضوع البدء في التعريفات والمفاهيم المتعلقة به، ومن هنا نبدأ سلسلة هذه المقالات فنقول:

أن من المعروف عند أساتذة القانون بأن للدولة ثلاثة أركان هي: الإقليم والشعب والسلطة السياسية، ومنذ نشأة الدول بمفهومها الحديث أصبح من الأهمية دوليًا وداخليًا تحديد الأفراد الذين ينتسبون لها ويكوّنون ركن الشعب فيها، وهو أمرٌ يترك لكل دولة، تُنظمه بقانون، يطلق عليه قانون الجنسية. فالجنسية هي أداة الدولة لتحديد عنصر الشعب فيها.

والجنسية من ناحية اللغوية مأخوذة من كلمة جنس بكسر الجيم، وهي كلمة معربة دخلت إلى اللغة العربية قديمًا جدًا، وتعني الضرب من الشيء، ويراد بها طبيعةٌ يشترك فيها أفراد يمتازون بها عن غيرهم. ولعل اختيار مفردة جنس وأخذ كلمة الجنسية منها ابتداءً وانتشارها في الدول العربية للدلالة على المعنى الاصطلاحي لها جاء لما توحيه مفردة جنس من معنى التحديد لطبيعة معينة وتميّزها عن غيرها والتجانس بين عناصرها. فبالتالي تكون الكلمة مناسبة لحالة انتماء الانسان لشعب دولة ما وتميزه عن غيره من شعوب الدول الأخرى والذين يعتبرون أجانب بالنسبة لتلك الدولة. وبطبيعة الحال لا يقصد بالجنس هنا: الأصل أو العرق، إذ أن من المستحيل أن يتكون شعب أي دولة من عرق واحد أو أصل واحد، ومن جانب آخر، لا يقبل أيضًا من الناحية الحقوقية أن تقوم الدولة بالتمييز بين مكونات شعبها على أساس الأصل أو العرق.

             أما تعريف الجنسية من الناحية الاصطلاحية فكثير من أساتذة القانون يرون بأنها رابطة سياسية وقانونية بين الدولة والفرد. فالجنسية رابطة سياسية لكونها تُدخل هذا الشخص في ركن الشعب للدولة وما يستتبعه من الولاء لها. كما أن الجنسية رابطة قانونية بين الفرد والدولة لكون القانون هو الذي يحدد كيفية نشأتها والآثار المترتبة عليها وما للطرفين (الدولة والفرد) من حقوق وما عليهم من التزامات على المستويين الداخلي والدولي.

            وبالإضافة إلى الرابطة السياسية والرابطة القانونية، تبرز أهمية الرابطة الاجتماعية بين الفرد والدولة، وهي تفيد انتماء الفرد للنسيج الاجتماعي في الدولة. وهذا النسيج لا يتكون في حقيقة الأمر إلا نتيجة استقرار الأفراد فعليًا على أرض الدولة وتقاربهم من بعض واختلاطهم ببعض والتكامل بينهم ومعايشة الاحداث التي تمر بهم، وتكوين الذاكرة الثقافية والشعور بوحدة المصير.

            فأهمية الرابطة الاجتماعية هي التي تحتم على المشرعين عند وضعهم لقوانين الجنسية اشتراط مدة زمنية معينة يقيم فيها طالب الجنسية بشكل مستمر ومنتظم في الدولة كشرط لاكتساب الجنسية، علاوة على شرط اجادة اللغة الرسمية للدولة. إن اجادة اللغة التي يتحدث بها أفراد المجتمع والمدة الزمنية التي يقيم فيها في وسط هذا المجتمع كفيلة بخلق هذه الرابطة الاجتماعية.

            وإدراكًا لهذا الأمر نجد بعض قوانين الجنسية تميز بين المتقدمين للحصول على جنسيتها وفقًا لمدى قدرتهم على سرعة خلق هذه الرابطة الاجتماعية والاندماج في المجتمع، فتشترط لمن يمتلك هذه القدرة مدة زمنية أقصر للإقامة في الدولة ممن لا يمتلكها. فقانون الجنسية القطرية السابق على سبيل المثال اشترط عند صدوره في عام 1961 في العربي المتقدم للحصول على جنسية الدولة: الإقامة فيها مدة عشر سنوات، بينما كانت هذه المدة لغير العربي 15 سنة.

            ولا شك أخيرًا صعوبة تحقق هذه الرابطة الاجتماعية في الدول التي تعاني من الخلل السكاني، أو التي تتيح تشريعاتها منح الجنسية للأجنبي دون تحقق شروط اكتسابها... هذا والله من وراء القصد.



halsayed@qu.edu.qa

الثلاثاء 7 يناير 2020

الثلاثاء، 8 يناير 2019


هل سيأتي قانون البصمة الوراثية بالمزيد من الضمانات لحماية الحق في الخصوصية؟
أ‌.        د. حسن السيد
8 يناير 2019

طالعتنا وكالة الأنباء القطرية والصحف المحلية يوم أمس (7 يناير 2019) بما تم تناوله في الجلسة الأسبوعية لمجلس الشورى القطري. ومما ورد أن المجلس تناول مشروع قانون بشأن البصمة الوراثية.
موضوع البصمة الوراثية نظمه المشرع القطري في عام 2013 بالقانون رقم (9) لسنة 2013. ذاك القانون جاء - بشكلٍ عام - متزنًا، مراعيًا خطورة الأمر وتداعياته على الحرية الشخصية والحق في الخصوصية، محددًا على سبيل الحصر العينات الحيوية التي تحفظ في قاعدة بيانات البصمة الوراثية، ومبينًا على وجه الدقة الأغراض التي يمكن الاستعانة بقاعدة بيانات البصمة الوراثية من أجلها، ومانعًا استخدام العينات الحيوية التي تم أخذها في غير هذه الأغراض، ومقررًا معاقبة من ينتهك سرية هذه البيانات أو يستخدمها بخلاف الأغراض التي نص عليها القانون. كما بين هذا القانون تأقيت حفظ العينات واعدامها بانتهاء الغرض الذي أخذت من أجله.
وكان قد سبق أن وافق مجلس الوزراء على مشروع القانون الجديد في جلسته في 24 اكتوبر 2018 وقرر إحالته إلى مجلس الشورى، حيث كشف وزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء آنذاك بأن مجلس الوزراء وافق على مشروع قانون بشأن البصمة الوراثية يحل محل القانون الحالي ويأتي في إطار تحديث التشريعات.
الخبر المقتضب الذي نُشر بالأمس عن مشروع القانون يثير القلق عما إذا كان التحديث المشار إليه سوف يأتي بما يقوض الحرية الشخصية وينتهك الحق في الخصوصية أم سأيتي بالمزيد من الضمانات لحماية حقوق الإنسان.
الحديث عن قانون البصمة الوراثية لا بد أن يعيدنا إلى الحكم التاريخي الذي أصدرته المحكمة الدستورية بدولة الكويت في عام 2017 بعدم دستورية القانون رقم (78) لسنة 2015 في شأن البصمة الوراثية). القانون الكويتي كان معيبًا بسبب عموميته وغموضه، إذ كان مفتقدًا للتحديد الجازم لضوابط تطبيقه. وقد بينت المحكمة أن (غموض النصوص التشريعية عامة يُعيبها).
أسباب كثيرة أدت إلى هذا الحكم بعدم دستورية قانون البصمة الوراثية منها أن:
·       القانون أطلق التحليل دون أن يقصره على إعطاء الحد الأدنى الضروري من المعلومات والذي يكفي لتحقيق الغاية التي صدر من أجلها القانون.
·        القانون لم يبين مآل العينات بعد الوفاة.
·       القانون لم يبين كيفية ووسيلة تصنيف المعلومات المأخوذة من البصمات الوراثية.
·       القانون لم يسبغ الحماية الواجبة على العينات ذاتها مكتفيًا بتقرير سريتها في حين أن الأمر مختلف ما بين الحماية والسرية.
كما بينت المحكمة أن (السجلات التي تحتوي قاعدة بيانات البصمات الوراثية بمثابة سجلات تكشف أمور الحياة الخاصة لكل من تواجد على الأراضي الكويتية باعتبار أن البصمة الوراثية لكل إنسان تحوي صفاته الشخصية التي تميزه عن غيره وتوضح نسبه وعائلته والأمراض الوراثية فيها، واسراره الطبية الدفينة، وهو ما يمثل انتهاكًا صارخًا للحرية الشخصية التي حرص الدستور على صونها)
ولم تعتد المحكمة بما قيل لصالح ابقاء القانون، فمن وجهة نظرها (لا يغير من ذلك ما قد يسهم فيه ذلك القانون عند تطبيقه من الحفاظ على الأمن والمساعدة في كشف الجرائم وتحديد ذاتية مرتكبيها والتعرف على هوية الجثث المجهولة، إذ أن ممارسة الدولة لحقها في حماية الأمن العام يحده حين ممارسته حق الفرد الدستوري في كفالة حريته الشخصية بما يقتضيه ذلك من الحفاظ على كرامته واحترام مناطق خصوصيته بعدم امتهانها أو انتهاك أسراره فيها دون مقتضى).
ما جرى في الكويت بشأن إلغاء هذا القانون لم يكن بالأمر الفريد، فقد أمرت محكمة حقوق الإنسان الأوربية أجهزة الشرطة البريطانية بمحو وتدمير قاعدة البيانات التي أنشأتها للبصمة الوراثية لأشخاص غير مدانين بأي جريمة، لانتهاكها حقوق الإنسان.
الآن ما نتمناه من مجلس الشورى أن يتأنى في دراسة هذا المشروع بقانون وأن يفحص محتواه بحذر وأن يثير ما يعتريه من عمومية وغموض، لا سيما في غيبة المحكمة الدستورية القطرية التي صدر قانون إنشاءها قبل 11 سنة دون أن ترى النور.

والله من وراء القصد.





الأحد، 23 ديسمبر 2018

لماذا نخلق للقرارات الإدارية المعيبة بيئة للاستمرار والبقاء؟



حسن السيد،    23 ديسمبر 2018

في الأسبوع الماضي طالعتنا الصحف المحلية بخبرٍ يتعلق بالموضوعات التي ناقشها مجلس الشورى في جلسته الأسبوعية بتاريخ 17 ديسمبر 2018. كان منها مناقشة مشروع قانون بتعديل بعض أحكام القانون رقم (7) لسنة 2007 بشأن الفصل في المنازعات الإدارية، وقرر المجلس إحالته إلى لجنة الشؤون الداخلية والخارجية لدراسته وتقديم تقرير بشأنه.

التعديل المقترح على نص المادة الثالثة من القانون المذكور جاء ليضيف استثناءات جديدة تبعد عن نظر القضاء أنواعًا جديدة من القرارت الإدارية النهائية.

قائمة الاستثناءات التي وردت في المادة الثالثة عند صدور القانون في عام 2007 كانت طويلة جدًا! جعلت الإستثناء اصلًا! فقد أبعدت عن نظر القضاء كلًا من أعمال السيادة والمسائل الجنسية القطرية والأوامر والقرارات والمراسيم الأميرية والقرارات الصادرة بموجب قانون حماية المجتمع والقرارات المتعلقة بالجمعيات والمؤسسات الخاصة والمطبوعات والنشر وتراخيص اصدار الصحف والمجلات وتراخيص الأسلحة والذخائر والمتفجرات ونزع الملكية للمنفعة العامة.

لم نكتف بهذا الشرخ لحق التقاضي المكفول دستوريًا بل اضفنا له في عام 2013 استثنائين جديدين تمثلا في القرارات المتعلقة بتحديد العنوان الدائم للناخب، والقرارات المتعلقة بالألقاب والانتساب للقبائل والعائلات، علاوة على أضافة (المراكز الدينية) إلى القرارات الصادرة بموجب قانون الجمعيات والمؤسسات الخاصة.

وها نحن الآن أمام مقترح جديد لادخال ثلاث استثناءات جديدة كما بين رئيس مجلس الشورى.

إن ما يجب التذكير به هو أن جميع هذه القرارات ينبغي أن تتوافق مع القوانين التي تصدر بموجبها وألا تخالفها، وأن القانون أسمى منزلة من القرار.

 وعليه يحق لنا أن نتسائل لماذا نخلق للقرارات الإدارية المعيبة بيئة للاستمرار والبقاء؟ لماذا نظلم من صدر القرار المعيب في حقه بالرغم من وقوف القانون إلى جانبه؟ لماذا نخشى أن يلجأ المتضرر إلى جهة محايدة تتمثل في القضاء لينظر في مدى مشروعية القرار الصادر في حقه؟

لذا أتمنى من مجلس الشورى عند مناقشته مشروع القانون بعد أن يصل إليه تقرير لجنة الشؤون الداخلية والخارجية بالمجلس أن يضع نصب عينيه إن مثل هذه الاستثناءات هي في حقيقة الأمر انتهاك لحق التقاضي الذي كفله الدستور في المادة (135) منه. والله من وراء القصد.

الثلاثاء، 21 نوفمبر 2017

انتخابات منصفة


انتخابات منصفة
جريدة الشرق القطرية
21 نوفمبر 2017


أكد سمو الأمير في خطابه أمام مجلس الشورى، في افتتاح دور انعقاده السادس والأربعين، على أن "الحكومة تقوم حاليًا بالإعداد لانتخابات مجلس الشورى بما في ذلك إعداد مشروعات الأدوات التشريعية اللازمة على نحو يضمن سير هذه الانتخابات بشكل مكتمل، بحيث نتجنب الحاجة إلى التعديل في كل فترة. فثمة نواقص وإشكاليات قانونية لابد من التغلب عليها ابتداءً لكي تكون انتخابات مجلس الشورى منصفة. وسوف تعرض على مجلسكم الموقر خلال العام القادم".
 وأتوقف في هذا المقال عند قول سموه "فثمة نواقص وإشكاليات قانونية لابد من التغلب عليها ابتداء لكي تكون انتخابات مجلس الشورى منصفة".

والانتخابات المنصفة التي نوه عنها سمو الأمير في خطابه لابد أن تنصرف إلى تحقيق العدالة بين المواطنين بعدم حرمان طائفة منهم من ممارسة حقي الترشيح والانتخاب مطلقًا، ولكن أين تكمن الإشكالية القانونية والدستور القطري قد نص في المادة (34)  منه على أن "المواطنون متساوون في الحقوق والواجبات العامة" ونص في المادة (42)  منه على أن "تكفل الدولة حق الترشيح والانتخاب للمواطنين، وفقًا للقانون"، وهو يعني صراحة أن كل المواطنين متساوون في الحقوق السياسية، سواء كانوا مواطنين بصفة أصلية أم مواطنين ممن اكتسبوا الجنسية؟
 أرى إن الإشكالية القانونية تكمن فيما قرره قانون الجنسية رقم (38)  لسنة 2005 من أنه "لا يكون لمن اكتسب الجنسية القطرية حق الانتخاب أو الترشيح أو التعيين في أي هيئة تشريعية". إذ إن هذا الأمر يمكن تقبله لو تم حرمان هذه الفئة لمدة مؤقتة فيما تسمى مدة اختبار الولاء، أو تم قصر الحرمان على من اكتسب الجنسية دون أن يتعدى الحرمان إلى ذريته من بعده، ولكن قانون الجنسية القطري لم يكتف بذلك بل نص على أنه "يعتبر قطريًّا بالتجنس من ولد في قطر أو الخارج لأب قطريّ بالتجنس". وهو بهذا لم يحرم أبناء المتجنس من التمتع بحقي الترشيح والانتخاب فقط، بل قرر ذلك على جميع ذريته مهما تفرعت وتعاقبت، إذ يعتبر ابن المتجنس متجنسًا، وهذا الأخير باعتباره متجنسًا بحكم القانون سوف يضفي على أبنائه صفة التجنس كذلك، وهكذا جيلًا بعد جيل إلى ما لا نهاية. مما يؤدي إلى اتساع نطاق المحرومين من المواطنين من حقي الترشيح والانتخاب مع تعاقب الزمان وتناسل الأجيال. وهو أمر ينجم عنه آثار سلبية لاسيَّما أن هذه الفئة سوف تشكل الأغلبية مع مرور الوقت. 

ولا شك بأن هذا الأمر يمكن معالجته لو كان قانون الجنسية تشريعًا عاديًا يتم تعديله بالإجراءات ذاتها التي تعدل بها القوانين العادية، غير أن الإشكالية هي أن الدستور القطري منح أحكام الجنسية القطرية الصفة الدستورية، بمعنى أنه لا يمكن تعديل أحكامه إلا بالإجراءات ذاتها التي تعدل به مواد الدستور ذاته، وهو أمر لا يمكن أن يتحقق في ظل مجلس الشورى المعين لكون هذا المجلس لا يستطيع أن يمارس اختصاصات المجلس المقررة في الدستور ومنها اقتراح تعديل الدستور وإقرار طلب تعديل الدستور. وبالتالي لا يمكن أن يعدل الدستور أو أي قانون له صفة دستورية إلا في ظل المجلس المنتخب. 

 ومما سبق نستشعر قول سمو الأمير: "فثمة نواقص وإشكاليات قانونية لا بد من التغلب عليها ابتداء لكي تكون انتخابات مجلس الشورى منصفة". 

 ومن جانبنا نرى أن التغلب على هذه الإشكالية القانونية يكمن في اعتبار الصفة الدستورية التي قررها الدستور لأحكام الجنسية القطرية قد لحقت بقانون الجنسية السابق رقم (2)  لسنة 1961، لأن أحكامه هي التي كانت سارية ونافذة وقت بدء العمل بالدستور الحالي، فبالتالي اكتسب قانون الجنسية رقم (2)  لسنة 1961 الصفة الدستورية فلا يمكن تعديله أو إلغاؤه أو إحلال قانون جديد محله إلا باتباع الإجراءات ذاتها التي تتبع عند تعديل الدستور. ولما كانت هذه الإجراءات لم تتبع فإن إصدار قانون الجنسية الحالي رقم (38)  لسنة 2005 بعد ستة أشهر من دخول الدستور حيز النفاذ، وفي ظل المجلس المعين يعتبر باطلا (انظر بحثنا المعنون بالصفة الدستورية لأحكام الجنسية القطرية وأثرها على قانون الجنسية الجديد). 

 كما يمكن التغلب جزئيًا على هذه الإشكالية في أن يذهب قانون انتخاب مجلس الشورى المرتقب إلى حرمان مكتسب الجنسية والجيل الأول من ذريته فقط على اعتبار أن تفسير ما جاء في قانون الجنسية القطري من أن (يعتبر قطريًّا بالتجنس من ولد في قطر أو الخارج لأب قطريّ بالتجنس)  يقصد به الجيل الأول ولا يمتد إلى غيره من الأجيال.

عدا ذلك فإن حل هذه الإشكالية لا يمكن أن يكون إلا بعد صدور قانون انتخاب مجلس الشورى المرتقب منسجمًا مع ما يشترطه قانون الجنسية القطري (38)  لسنة 2005 من شروط ابتداءً، ثم يتم تعديل قانون الجنسية في ظل المجلس المنتخب وفقًا للإجراءات التي تتبع لتعديل الدستور فتحذف منه المواد التي تنص على تضييق دائرتي الترشيح والانتخاب. والله من وراء القصد. 

الأربعاء، 29 يونيو 2016

لماذا نخشى المجلس المنتخب

بمناسبة صدور قرار بتمديد  جديد لمجلس الشورى المعين  

نعيد عرض مقالة سابقة نشرت في جريدة الشرق

5 يونيو 2013


من الأمور التي يثيرها البعض في معرض خشيته من مجلس الشورى القطري المنتخب، تجربة مجلس الأمة الكويتي وحالة التأزيم السياسي المستمر والمتواصل بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، فيحاول تعسفاً تحميل البرلمان الكويتي مسؤولية بطء التنمية، لذا يدعو إلى عدم خوض تجربة مماثلة قد توصلنا إلى وضع مماثل.
ورغم أن هذا القول لا ينطلي إلا على البسطاء، إلا أن من الفائدة القيام بتفنيده. ذلك أن من يستحضر هنا التجربة الكويتية حسب رأينا إما أن تكون له مآرب أخرى، أو أنه لم يقرأ الدستور القطري، أو لم يدرك حقيقة تشكيل هذا المجلس، ولا حقيقة صلاحياته!، وهو أمر يجعل المقارنة بين المجلسين القطري والكويتي في غاية التباين!، فبشأن التشكيل على سبيل المثال، فإن مجلس الأمة الكويتي يتألف من أعضاء منتخبين عددهم خمسون عضواً، ومن الوزراء وهم أعضاء بحكم مناصبهم، ونسبة هؤلاء لا تشكل عائقاً أمام الوصول للأغلبية المطلوبة لاتخاذ القرارات المهمة كفرض تشريع ما، أو سحب الثقة من وزير ما. أما تشكيل مجلس الشورى القطري فيتألف من 45 عضواً ثلاثون منهم منتخبون وخمسة عشر يعينهم الأمير وهو من يملك إعفاءهم، وهذا الثلث المعين يشكل في الواقع العملي نسبة معرقلة لعمل مجلس الشورى إنْ لم تكن نسبة معيقة لدوره، لكون الأغلبية المطلوبة لاتخاذ القرارات المهمة هي أغلبية ثلثي الأعضاء الذين يتألف منهم المجلس!
والتباين في القوة بين المجلسين لا يقتصر على التشكيل فحسب بل يبرز كذلك في شأن صلاحيات كلٍ منهما! ففي الرقابة على أعمال الحكومة على سبيل المثال لا يمكن لمجلس الشورى القطري أن يستجوب رئيس مجلس الوزراء، ولا يمكنه أن يطلب عدم التعاون معه، في حين يتمكن مجلس الأمة الكويتي من ذلك. كما لا يُمكن، من جانب آخر، أن تثار مسألة استجواب أحد الوزراء إلا بموافقة ثلث أعضاء مجلس الشورى في الوضع القطري، بخلاف الوضع في الكويت إذ يستطيع أي عضو من أعضاء مجلس الأمة منفرداً أن يوجه استجواباً لأي وزير (انظر المادة "100" دستور الكويت). أما بشأن سحب الثقة من وزير ما فلا يمكن في قطر أن يتم ذلك إلا بموافقة ثلثي الأعضاء الذين يتألف منهم مجلس الشورى أي ثلاثون عضواً، وهي أغلبية شبه مستحيلة التحقق في الواقع العملي لوجود الثلث المعين، في حين أن الأغلبية المطلوبة لسحب الثقة من أي وزير في الحالة الكويتية هي أغلبية الأعضاء المنتخبين أي أن الأعضاء بحكم مناصبهم لا يشتركون في التصويت (انظر المادة "101" دستور الكويت) وهي بالتالي أغلبية يمكن أن تتحقق في الواقع العملي.

لذلك كله فإننا نقول لمن يثير الحالة الكويتية ويخشى أن يؤدي وجود المجلس القطري المنتخب إلى مصادمات وتأزيم سياسي ينعكس على التنمية: اطمئن فإن واضعي الدستور القطري قد كفوك العناء ونزعوا فتيل ما تخشاه.
ورغم محدودية دور مجلس الشورى المنتخب والمرتقب الذي أثرناه في الفقرات السابقة، فإن ذلك لا يعني إطلاقاً عدم المطالبة به أو عدم الحث على الدعوة لانتخاب أعضاءه. فهو بلا ريب أفضل من المجلس الحالي المعين إذ سيصبح للشعب دور في انتخاب ثلثي المجلس، وهؤلاء المنتخبون سيستمدون قوتهم في أداء عملهم من قوة الشعب، ولن يكونوا أسرى لمن عينهم. كما أن عضويتهم مؤقتة بأربع سنوات تجرى قبل انتهائها انتخابات جديدة قد تأتي بدماء جديدة، تحمل طموحات وأفكار ورؤى الزمن الجديد الذي انتخبوا فيه، وهو خلاف المجلس المعين الذي يبقى فيه العضو إلى أمد غير مسمى يتجمد فيه فكره وفاعليته وحماسه إن لم تكن حركته أيضاً. أما بشأن الصلاحيات الأخرى فإن المجلس المعين وبخلاف المجلس المنتخب، لا يملك حق الاستجواب أو حق سحب الثقة من أي وزير، كما لا يملك حق اقتراح القوانين، علاوة على أنه لا يملك إلا رؤية باب المشروعات الرئيسة العامة من مشروع الموازنة العامة. بالتالي يعتبر المجلس المرتقب أفضل، شيئاً ما، من المجلس المعين ويحقق غرض التدرج نحو امتلاك المجلس يوماً ما صلاحيات برلمانية أوسع. علاوة على أن إجراء الانتخابات والجو الذي تحيا فيه ودوريتها، وعلنية جلسات مجلس الشورى ووجود أعضاء منتخبين سوف ينعكس لا محالة إيجاباً على حرية التعبير وقد يحرك مياه الرقابة والشفافية الراكدة.
إن الذي يتخذ من الوضع الكويتي شماعةً يُعلق عليها رغبته في سد أي منفذ للمشاركة الشعبية ولو كان كخرم الإبرة، ويود تأجيل الدعوة لانتخابات مجلس الشورى يجب أن يدرك جيداً بأنه يضرب المصداقية في مقتل. ففي الأول من نوفمبر عام 2011 ألقى سمو الأمير خطابه السنوي في افتتاح دور انعقاد مجلس الشورى جاء فيه: "...إني أعلن من على منصة هذا المجلس أننا قررنا أن تجري انتخابات مجلس الشورى في النصف الثاني من العام 2013. نحن نعلم أن هذه الخطوات كلها خطوات ضرورية لبناء دولة قطر الحديثة والإنسان القطري القادر على خوض تحديات العصر وبناء الوطن. ونحن على ثقة أنكم ستكونون على قدر المسؤولية".
إن الدعوة لإبقاء الحال على ما هو عليه وعدم الثقة بالشعب لا شك بأنه يخالف قناعات سمو الأمير التي عبر عنها في هذا الخطاب، وفي خطابات عديدة ذكرنا بعضها في المقال السابق، ونذكر هنا كلمة سموه قبل أيام قليلة مضت في افتتاح منتدى الدوحة ومؤتمر إثراء المستقبل بتاريخ (20 مايو 2013) والتي جاء فيها: "...إنني على يقين بأن من يرفض الإصلاح والتغيير ولا يستوعب حقائق العصر ومتطلبات المجتمعات الحديثة سوف تغيره ضرورات التاريخ ومسيرة الزمن...".، وكأن كلمة سموه جاءت رداً على هؤلاء.
ومن جانب آخر لا يمكن أن يكون عدم استكمال التشريعات الخاصة بمجلس الشورى سبباً في تأخر إجراء الانتخابات إلى الآن. ذلك أن الصحف المحلية زفت لنا قبل عام من الآن وبالتحديد في تاريخ 7 يونيو 2012 موافقة مجلس الوزراء الموقر في اجتماعه الأسبوعي على اتخاذ الإجراءات اللازمة لاستصدار مشروع قانون بنظام انتخاب أعضاء مجلس الشورى، بعد أن وافق مجلس الشورى عليه قبل أربع سنوات من تاريخ رفعه إليه! (أي بتاريخ 19 مايو 2008) في هذا الاجتماع الأسبوعي لمجلس الوزراء المنعقد بتاريخ 6 يونيو 2012 تمت الموافقة أيضاً على مشروع مرسوم بتحديد الدوائر الانتخابية لمجلس الشورى وبيان مناطق كل دائرة وعدد الأعضاء الذين يتم انتخابهم عن كل منها، والموافقة على مشروع قرار أميري بشأن إنشاء وتشكيل لجنة تحديد العنوان الدائم للناخب وتحديد اختصاصاتها والإجراءات التي تتبع أمامها، وأخيراً الموافقة على مشروع قرار وزير الداخلية بنظام الاقتراع بسفارات الدولة بالخارج لانتخاب أعضاء مجلس الشورى. جميع مشروعات الأدوات التشريعية السابقة والمرتبطة بانتخابات مجلس الشورى قد استكملت وأعلن عن الموافقة عليها قبل عام من الآن فلم تبق حجة أو سبباً لتأجيل الانتخابات أو للتمديد للمجلس المعين!
والله من وراء القصد.