الخميس، 27 يناير 2011

مقالة للاستاذ محمد الخليفي "حرية الحمار"

حرية الحمار


محمد بن هلال الخليفي
لا أدري لماذا قدحت في ذهني ، بعد قراءتي مقال الأخ حسن السيد وتعليق الأخ عبدالعزيز الخاطر عليه ، قصة حمار أبو خلدون ، رغم علمي أن ظواهر التغير والتغيير الاجتماعي ، ظواهر معقدة لا تقبل التفسير الواحدي .
لقد سبق أن تناولت في مقال سابق عن تكريس الاستبداد ، هذا الموضوع من زاوية أخرى وقلت فيه إن الدولة التي تشتري شرعيتها بالسلع والخدمات ليست في حاجة إلى شرعية ديمقراطية، فليرجع له من يشاء . كما كنت قد استخدمت هذه القصة في مقال قديم وفي سياق آخر . وهاهي الآن تقدم نفسها جزءاً من تفسير المشهد الذي عرضه الأخ السيد .
 يقول ساطع الحصري :  
( .. كان الجو حاراً والهواء راكداً ، وكنت لا أرى للحركة أثراً حتى في أخف الأزهار والأوراق . فأخذت أعصابي تتخدر بفعل الحرارة ، وهذا السكون الشامل .. غير أني رأيت بعد مدة أن الحمار قد أخل بغتة بهذا السكون ، وتحرك من الزاوية التي كان مربوطاً بها ، فدار إلى الوراء ، وأخذ يمشي طول الحديقة ، ثم توجه نحو مجاز الباب .. هممت أن أقوم من محلي لأنادي الخادم ، وأطلب إليه أن يمسك الحمار ويعيده إلى مربطه ، غير أني قلت لنفسي : لا حاجة إلى ذلك إنه سيذهب إلى الشاطئ بطبيعة الحال ، فلا يصعب على الخادم أن يمسكه عندما يستيقظ . وهكذا عدلت عن فكرتي ، وعدت إلى قيلولتي ...
لم يمض على ذلك وقت طويل ، حتى سمعت وقع أقدام الحمار على البلاط ، ورأيته يدخل صحن الدار من حيث خرج ، ويدور حول الحديقة إلى أن وصل إلى قرنة المطبخ ، ووقف هناك .. كما كان يُربط بحديد الشباك . ففهمت عندئذ أنه لم يكن مربوطاً بحبل قبل خروجه من الدار أيضاً ، وأنه كان يقف هناك بحكم الاعتياد ، ويخرج إلى الشاطي كلما شعر بعطش ، ثم يعود إلى مربطه من تلقاء نفسه .. بعد أن يستوفي حاجته من الماء .
لقد أثارت هذه الواقعة في ذهني سلسلة طويلة من الملاحظات :
إن هذا الجحش حر وغير مقيد بقيد مرئي ومادي ، وهاهو واقف هناك كأنه مربوط بحبل قصير إلى الشباك .. ولم يقده أحد إلى شاطئ النهر ، ولم يرجعة أحد إلى صحن الدار ، غير أنه ذهب إلى الشاطئ وعاد منه كأنه في رعاية سائس يقوده على الدوام .. إنه الآن حرٌ وطليق في الظاهر ، ومقيد وأسير في الحقيقة : إنه مقيد معنى بالحبال التي كانت تربطه في الماضي فعلاً ، كما أنه منقاد للسائس الذي كان يقوده قبلاً .
ولكن هل هذا الحال خاص بالحمار ؟ أفلا تتشابه حرية الإنسان أيضاً مع حرية هذا الحمار في بعض الأحيان ؟ .. .. ) انتهى كلام أبو خلدون .
نعم . تتشابه . فما نراه من أفعال حرة في الظاهر ، هي في حقيقتها مقيدة بقيود مختلفة . من تلك القيود التي يمكن أن نضرب بها مثلاً قيد العادة .
العادة قيد كبير وشديد الاحكام ، لكننا من فرط ألفتنا به ، لا نشعر به ، ولا نحس أثره في تكبيل خطواتنا . فكم هي العادات التي تتحكم في كثير من الأفراد . عادات كثيرة حسنة وسيئة أصبحت جزءاً من شخصيتنا ، وسلوكاً نتفاعل به مع من حولنا .
ومن أكثر الأمثلة شيوعاً والتي تدل أوضح دلالة على تحكم العادة في سلوكنا ، مثل المدخن مع سيجارته . فأنت تراه يذهب إلى الدكان بكامل حريته ، ويسأل عن سيجارته المفضلة ، التي اختارها من بين أنواع عديدة من السجائر !! ويخرج النقود من جيبه يدفع بها ثمن السجائر ، ثم يفتح علبة السجائر ، ويسحب منها سيجارة ، ويخرج الولاعة ، ويشعل السيجارة ، ويأخذ نفساً عميقاً ، وينفث الدخان في الهواء ، معبراً عن مبلغ سعادته وانشراح مزاجه ، ثم يكرر سحب الدخان ونفثه ، إلى أن يأتي على آخرها فيرميها على الأرض ، وقد يطفئها بحذائه . أنت تنظر إلى مثل هذا المشهد فتظن أن المدخن حراً في فعل كل ذلك . لا ليس حراً بل العادة تقوده إلى أن يفعل كل ذلك مهما بدى لك سلوكه الإرادي الحر!! وهذا أي قيد العادة تفسير استخدمه إيتيان دو لا بويسي [ كاتب فرنسي في القرن السادس عشر ] في مقالته
 ( العبودية الطوعية ) قد نعرضه في وقت لاحق .  
ولو تركنا المدخن مع سيجارته ، ونظرنا في أحد الأسئلة – فقد قلت أن القصة تفسر جزءاً من المشهد - التي طرحها أخونا حسن السيد :
( هل نلوم الحكومة بعدم منح المزيد من الصلاحيات لمجلس الشورى إذا كان الحد الأقصى من هذه الصلاحيات لم تمارس فعلياً من قبل أعضاء المجلس ولم يصل هؤلاء إلى السقف الأعلى مما هو متاح لهم قانوناً، ولم يطالبوا يوماً بالمزيد منها. )
هكذا إذن . صلاحيات أعطيت لمجلس الشورى ، لكن أعضاء المجلس لم يمارسوها. دع عنك المطالبة بالمزيد منها .
وسواء قبلنا ما قاله الأخ حسن ، من أن الصلاحيات الممنوحة لأعضاء مجلس الشورى لم تمارس أم لم نقبل، فإننا نرى أن الحرية الظاهرة لأعضاء مجلس الشورى التي تتيح لهم أن يمارسوا ما يملكون من صلاحيات ، هي في الواقع حرية مقيدة بقيود كثيرة ، قد تكون العادة إحداها ! فقد يكون وقع في ظنهم أن ما يطرحونه من اقتراحات لا يجد له صدىً فيما يصدر من قرارات . فتعلموا ألا يناقشوا إلا ما تعرضه عليهم الحكومة . وقد يكون التعيين قيد آخر ! فمن عَيَّنه قادر على أن يعين غيره في أي لحظة ! وقد يكون طمعاً في جزءٍ من الجزرة ! والجزرة كبيرة قد يصيبه منها قضمة !! وقد يكون .. وقد يكون .. كل تلك قيود لا يراها الملاحظ بعينه المجردة فيظن أن أعضاء المجلس أحرار ولديهم من الصلاحيات الكثير ، لكنهم إختاروا ألا يمارسوها . والحق أنهم ليسوا كذلك .  
وبرغم كل ذلك فإن
 " هنالك على الدوام من يَفْضلون سواهم منذ مولدهم ، فيشعرون بعبء النير ولا يتوانون عن خلعه ، ولا يسع الإذلال أن يروضهم أبداً .. فيحرصون على ألا ينسوا حقوقهم الطبيعية ، وأصولهم ، وحالهم الأولى ، فيَجدُّون مطالبين بها في كل مناسبة ، فلا يكتفي هؤلاء ، وهم يتمتعون بفهم واضح  وفكر نَيِّر ، برؤية ما تحت أقدامهم ، من دون النظر إلى الوراء وإلى الأمام ، فيتذكرون ما قد مضى للحكم على الحاضر وتوقع المستقبل . فهم الذين يتمتعون بعقل منظم ، فيزيدونه رهافة بالتحصيل والمعرفة . أولئك هم الذين إنْ فقدت الحرية تماماً واستبعدت من هذا العالم ، تخيلوها فشعروا بها في روحهم فتذوقوا طعمها ، وتعاف نفوسهم العبودية مهما ارتدت أشكالاً " .
هكذا تحدث لا بويسي .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق